عدم تأخر النبي - ^ - في حل الإشكال الحادث؛ فما أن سمع بالخبر حتى ذهب مسرعاً إلى القوم، بعد أن استدعاهم، وأنهى بحكمته وحنكته هذا الأمر الطارئ؛ فلو أنه تأخر أو استهان به وتركه، مع أنه سيكون حينئذ معذوراً؛ فهو النبي، وهو القائد الأعلى الذي على عاتقه من المهمات والأعمال الشيء الكثير ـ فلو أنه تأخر ـ لكان هذا الموقف من الأنصار ـ - رضي الله عنهم - ـ قنبلة موقوتة، ربما ستنفجر يوماً من الأيام، وتعلق في أفئدة الرجال استفهامات وتقديرات خاطئة، تساعدها مواقف أخرى، والشيطان لا يترك مثل هذه الفرص، بل يؤججها ويجعلها فتيلاً قابلاً للاشتعال فهو قد: «أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»
، «وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم؛ فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدسّ، سريع المكر؛ فلا يهملِ القادةُ استرضاءَ أنصارهم مهما وثقوا بهم».
تحدث المشاكل بين العاملين في الحقل الدعوي، وتصل قضاياهم إلى قيادة العمل، ولكن للأســف تجــد خمولاً إزاءها ولا مبالاة، وكأن هذه القيادة ليس لها إلا التصدر والترؤس، واستصدار الأحكام والفتاوى، أما حل تلك المشكلات وتقريب النفوس وتهذيبها فهذا ليس من اهتماماتها؛ لأن بعضهم يزعم أنهـا ستشغلهم عن مهمات كبيرة جداً، ولا أدري: هل هذه المهمـات أعظـم من التفكك والانشقاقات والتصدعات، وهشاشة العمل وتأخر ثمرته؟ فهل هؤلاء القادة يحملون أثقالاً أكثر وأعظم مما حمله - ^ -؟ ولكن المشكلة الحقيقية عند بعض قيادات العمل الدعوي: هي عدم تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم القدرة على استيعاب مواطن الخلاف بين العاملين أو التلامذة، ومن ثم عدم قدرة القائد تحمل أن يرى عماله أو تلامذته يختلفون أمامه، بل بعض القادة يتمنى أن لو كانت الأمور تسير دائماً على ما يرام لا يشوبها كدر ولا خلاف أو شقاق وهيهات. لقد نسي هؤلاء ـ وفقهم الله ـ أن الله تعالى قال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .
إن هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من مغذيات النمو ما هو كفيل بأن يجعلها مفاصَلات مع المربي نفسه، ودماراً وخراباً لكل ما بناه في سنيه التي خلت؛ فليس معه إلا أن يوجه أصابع الاتهام ليس إلى ذاته، وتفكيره، وعدم حنكته، وضعف بديهته، وإنما بالدرجة الأولى يوجهها إلى هذا الجيل المتأخر غير المتربي، والذي لا يحترم الكبير فضلاً عن القائد والمربي، ولعمري! إنها لمصيبة عظيمة أن نلقي التبعة على غيرنا، ونخرج نحن خارج الدائرة.
42- الحلم مع القدرة:
سعة صدر النبي - ^ - وتحمّله للنقد الموجّه له؛ «يغفر الله لرسول الله - ^ -؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ » .. فلم يرتفع صوته أو يحمرَّ وجهه ويَسوَدَّ، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين؛ فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم ويقاطع العمل معهــم؛ بحجــة أنهـم لا يحترمون القيادة، ولا يوقرون الكبار، ولا يقدرون فضائل من ضَحّى من أجلهم. كلا، لم يفعل - ^ - شيئاً من ذلك؛ بل ذهب إليهم، وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق مستوى الحدث، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء؛ فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق الدموع على خدودهم.
إن بعض القادة والمربين يستطيع أن يستميل قلوب تلامذته ورجاله لو رآهم أخطؤوا بموعظة بليغة تَوْجَل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، إلا أنه تغلبه الطبيعة التي تربى عليها منذ صغره؛ فيرى أن كبرياءه قد جرحت وخدشت، ولا يعيدها إلا اعتذار على مستوى رفيع، كأن يعتذر هؤلاء الذين تكلموا ليس في اجتماع مغلق: كالحظيرة أو القبة التي اجتمع فيها الأنصار بل اعتذار على الملأ، حتى يجرح كبرياءهم ويخدشه مثلما فعلوا.
إن الرفق بالمتلقي إذا أخطأ أمر مهم جداً؛ إذ إن القسوة عليه في غير محلها، وهو يحب مربيه ومعلمه يوغر في صدره أموراً، ويطرح أمام ناظريه عدة تساؤلات، لا يجيب عليها إلا واقع سيئ يعيشه هذا المتربي في تعامل قادته مع أتباعهم.
كما أن على القائد أن يضع في عين الاعتبار والاهتمام أن أتباعه ذوو عقول تزداد خبرةً وعلماً ومعرفةً يوماً بعد يوم، وفكراً ينضج ساعةً بعد ساعةٍ. فلو أُهملت هذه العقول وتلك الأفكار المتراكمة لكانت العاقبة وخيمة، ويسقط البنيان من القواعد.
يجب ألاّ نتعامل مع المنتقد على أنه ذلك الشاب الصغير الذي كان يوماً من الأيام لا يستطيع أن يثبّت النظر في عيني شيخه ومعلمه، أو ذلك الطالب الذي كان يتلعثم في كلامه.
فعجلة الزمن لا تتوقف؛ فهي تدور ويتطور معها الكائن البشري، ويرتقي في سلم الكمال؛ فيصبح المتربي أو الجندي قائداً بين لحظة وأخرى، وربما نِدّاً لقائده ومعلمه ومربيه.
43- الصراحة، والوضوح:
لقد كان سعد بن عبادة - -: صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي - ^ - قائده ومعلمه؛ فها هو يقول له: «يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
إن هذه الصفات والخصال الحميدة لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من القادة أو الموجهين الذين لا يضعون على أنفسهم هالة من التبجيل، ولا تصيبهم غضاضة لو لم ينادَ بلقبه أو مركزه العلمي.
الصراحة، والوضوح أسماء ومعانٍ قلّما تجد من يتمثلها فتصبح واقعاً وسلوكاً ومنهجاً في تعامله مع الآخرين صغاراً أم كباراً، ولذا فإنك ترى من يفعل ذلك قد أصبح لكلامه وقعٌ في النفوس، ولوعظه تأثيرٌ في القلوب، وأعماله منهجٌ يسير عليه ويقتدي به الآخرون، وما ذلك إلا لأن هؤلاء قد عظّموا الله ـ جل جلاله ـ تعظيماً فاق كل التصورات، واقتفوا أثر نبيهم، فكان نبراساً لهم في هذه الحياة. وما أجمل وضوح سعد بن عبادة - - وشفافية رده للنبي - ^ - عندما سأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟ » فقال - ^ -: «يا رسول الله! إنما أنا رجل من قومي»؛ أي: أن قولهم ورأيهم هو قــولي ورأيي. لم يكن ســعد - - متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، وهذه صفات تكثر في الأتباع تجاه قادتهم؛ مما يورث الجماعة انقساماً، وتحزباً، ونجوى مفسدة وموهنة لحبل الاجتماع. وقد يقول قائل: إن سعداً كان إمَّعة في قوله ذاك، أو أنه خاطب النبي - ^ - بالمنطق الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كلاَّ! إنها مسألة بدهية أن يجد الإنسان في نفسه عندما يرى العطايا تقسم ولا يصل له منها شيء، مع أنه جزء من الجماعة؛ فما بالك إذا كان هو مرتكز التغيير والتحول، وصاحب السابقة، والتأييد، والإعزاز، والنصرة؛ فكيف سيكون الحال؟
إن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفطرة الإنسان في محبته للمال والعطاء؛ فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً، والله قد أحل الغنائم لأمة محمد - ^ -؛ فأي غضاضة أن يطلب الإنسان حظه منها؟!
وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب المتربي بكل ما يحمله من قِيَم ومبادئ ومعان سامية، حتى لا يبقي في قلبه سوى حب الله وحب الرسول - ^ - وما أعده الله للصابرين الذين باعوا الدنيا وما فيها، واشتروا بها جنة عرضها السموات والأرض، وهذا الذي فعله - ^ -؛ فقد أعلنها واضحة جلية: أن قضيتهم ليست مرتبطة بلُعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه، ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله؛ فليذهب الناس بالشاة والبعير، فليس هناك مشكلة؛ بل أعظم المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا، وهو خالي الوفاض من دينه، وتمسكه بما أمر ربه، والتزام ما نهى؛ فالتخليط ديدنه، والتلوُّن طريقته، والترخُّص عادته.
44- الموعظة وليس الغلظة والفظاظة:
المتأمل لردة فعل النبي - ^ -، وبما خاطب الأنصار في الحظيرة يجد أنه استخدم بذكائه العظيم، وحسن سياسته للأمور، أسلوب الموعظة. لقد عرف - ^ - من هم الأنصار، وما هي نفسياتهم، وفيمَ يفكرون، وكيف يتعاملون؟! عرفهم في البأساء والضراء، عرف فيهم دماثة الأخلاق، والكرم الجم، والحب الكبير له - ^ -؛ فلماذا إذاً يعنِّفهم ويقسو عليهم؟ وهو القائل: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» . ، وهو الذي قال عنه المولى- تبارك وتعالى - : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ﴾
وما أحوج قادة العمل الدعوي إلى استخدام هذا الأسلوب الدعوي العظيم إذا اعوجَّ سلوك النخبة من تلامذتهم وأتباعهم! ماذا يضيرهم لو سلكوا هذا المنحى؟ قد يظن بعضهم أنه ربما ينقص من قدره ومكانته، بل العكس إنما هو رفعة له في قلوبهم، وازدياد معدل المحبة فيها.
لقد عاتب - ^ - أنصار دعوته ومحبيه ليدلل على محبته لهم، واهتمامه بحالهم وأوضاعهم، يعيش آلامهم، ويحس بجراحهم لتبقى المودة على الدوام.
أعاتب ذا المودة من صديق *** إذا ما رابني منه اجتنـابُ
إذا ذهب العتاب فليس ود *** ويبقى الود ما بقي العتابُ
«فما ثَمَّ شيء أحسن من معاتبة الأحباب، ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب»
ومن هنا كان لزاماً على من تولى قيادة النفوس أن يتقن فن الوعظ وطرقه؛ لأنه سيحتاج إليه حتماً في مسيرته التربوية والدعوية؛ فالسآمة والملل وتكرار صور الحياة أمور يجب الخوف منها، ومدافعتها عن قلوب الأتباع؛ فها هو ابن مسعود يقول: «كان النبي - ^ - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»
ويحتج بعضهم أن القيادة مشغولة بمهام عدة، وربما ليس عندها وقت لتجلس مع أتباعها، وتُصلح ما فسد بينهم بسبب الشحناء والاختلاف. وهذا غير صحيح ومجانب لواقع النبي - ^ -؛ ألم يكن بمقدور النبي أن يغض الطرف عـن مـا بــــدَر من الأنصار ويذهب لمهامه العظام؟ أليس شغل النبي - ^ - في تلك الفترة أعظم من انشغالات قيادات اليوم؟ بلى! ولكن القضية هي لا مبالاة قاتلة بواقع الأتباع، يرتكبها القادة بقصد أو بغير قصد. والنتيجة سيئة للغاية ومعالمها بادية للعيان: وهَنٌ في واقع الأتباع، ضعف للهمم، ركون لمتع الدنيا الزائلة؛ ويأس وقنوط من تغيّر وعدم تغير الأوضاع.
لقد كان - ^ - يتخذ من الوعظ بشتى صوره وأساليبه سلاحاً نافعاً لتلك المعالم آنفة الذكر، حتى استطاع أن يخرج جيلاً يقوم بواجب تبليغ الرسالة للأمم حق القيام، وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأئمة من بعده. أما اليوم فالأمر بخلاف ذلك، والله أعلم.
45- التذكير بالفضائل لأجل المتابعة:
إن من الغُرم الكبير الذي يقع على القائد، والموجه، والمربي من تلامذته، وأتباعه نسيانهم لفضائله وأعماله ومناقبه؛ فكم بذل وضحى وقاسى! وكم سهر وتعب وآسى! وربما مرض لأجل تربيتهم والحفاظ عليهم من الأعداء والمتربصين بهم؛ فكم كان يخطط وينسق وينظم جداول الأعمال والآمال لأجل صنع مستقبل مشرق، وتاريخ مجيد لهم في خدمة أمة الإسلام، ورفع راية التوحيد!
تُنسى الفضائل والأعمال والمناقب، بمجرد أن يصبح الطويلب طالب علم، أو شيخاً، أو عَلَماً دعوياً.
وتُنسى عندما يصبح طالب حلقة التحفيظ حافظاً لكتاب الله وقارئاً للقرآن يحمل الإجازات والقراءات.
وتُنسى أيضاً عندما يخطئ القائد خطأً ما، ويفحش في خطأ ما؛ بأن يصر عليه، ويتعنت فيه لرؤية رآها، واجتهاد وصل إليه والتلامذة والأتباع يرون خلاف ذلك، وأن قائدهم قد جانب الصواب.
ولوازم هذا النسيان متنوعة؛ فإما أن يوصم القائد بالتشدد أو الحزبية أو ضعف الرؤية، ثم تأتي معاول الهدم لتضرب على جدار تاريخه: ماذا فعل؟ لقد أخر العمل، وميّع القضية، وركن إلى الدنيا وشهواتها الدنية، ثم ينقَّب في أخطائه وزلاته حتى تصبح في نظرهم كالجبال، والنتيجة على أحسن الأحوال مقاطعة لمحاضراته ودروسه، ويبقى السلام والزيارة في الأعياد والمناسبات. أما على أسوئها فهو مبتدع، ضال، منحرف، أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لو استطاعوا أن يقتلوه لقتلوه ورموه في عرض الطريق.
لقد كبرت عقول الصغار حتى نسوا الماضي التليد، وانشغل الكبار حتى نسوا أنهم في عجلة الزمن التي لا تتوقف لمتباطئٍ، أو غافلٍ، أو بليد.
فمن حق القائد أن يوضح أعماله وفضائله ومناقبه، حتى يكون له الغُنْم وليس عليه الغرم، أو تعتدل كفة الميزان على الأقل.
ولعلنا نتذكر يوم دخلت الأحزاب على عثمان بن عفان - - وأرادوا قتل أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين المهديين.
قال لزعمائهم: «أنشدكم الله! أتعلمان أن رسول الله - ^ - لما قَدِم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خيرٌ منها في الجنة؟ » فاشتريتها من مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - ^ - لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة، فقال رسول الله - ^ -: «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خيرٌ منها في الجنة؟ » فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم!.
لم يكن تصرف عثمان - - يخدش مقام الإخلاص في قلبه، وإنما كان مجرد وسيلة لاستمالة قلوب أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، لكنها لم تنفع؛ ولذا فإن استمالة القلوب تكون أحياناً لا فائدة فيها عندما تقابل قلوباً أقسى من الحجارة، ناكرة للجميل، ومتناسية للأيام الخوالي، والزمن الطويل، فلم تترب التربية الإيمانية، ولم تصفُ سريرتها وأعمالها فتصبح نقية روحانية؛ ولذا فقد نفعت مع الأنصار حينما خاطبهم رسول الله - ^ - بخطاب رائع وموجز، لكنه غني: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ »
ولعلنا نتساءل: هل كان رسول الله - ^ - بحاجة إلى أن يوضح للأنصار ما عمل لهم؟ أو يخبرهم بحالهم، وكيف انتقلوا من حال الضعف إلى حال القوة بمجيئه - ^ - إليهم؟ هل كان بحاجة إلى كل هذا؛ وقد قضى معهم ثماني سنوات، كانت كفيلة بأن ترسخ تلك الحقائق في أذهان الأنصار؟
يجاب عن هذه التساؤلات بأن الإنسان ما سُمّي إنساناً إلا لنسيه، كما روي عن ابن عباس - -
وقد قال القائل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ *** وما القلبُ إلا أنه يتقلب
فالأنصار بشر يعرض لهم ما يعرض للبشر من النسيان، والسهو والغفلة، وهُمْ من المؤمنين الذين أمر الله نبيهم أن يذكرهم ﴿وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ﴾ ؛ فلما ذكَّرهم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال؛ لأنهم يحملون قلوباً أرقّ من النسيم، ما أن تسمع الحق حتى وتباشره بالخشوع والبكاء؛ فليت لنا قلوباً مثل قلوبهم أو حتى نصفها.
أما الجانب الآخر من الاعتراف بالفضل: فهو اعتراف القائد بفضل أهل السبق ومكانتهم، وهذه قضية غفل عنها كثيرٌ من قيادات العمل الدعوي اليوم، فترى أحدهم تمر عليه السنون ولم يظهر ثناؤه لرجاله الذين ساندوه، ووقفوا إلى جانبه في الملمات والمهمات، وفي المصائب والنكبات؛ ألم يكـن النبي - ^ - يقول عن أبي بكر: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر»
وعن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة»
والزبير: «إن لكل نبي حوارياً، وحواريِّي الزبير» ! وها هو يقول للأنصار: «والله! لو شئتم لقلتم ـ فصدقتم وصدقتم ـ: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّناك ومخذولاً فنصرناك»، وقال عنهم في آخر عمره: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» . ؛ فهل قيادات العمل الدعوي ـ يا ترى ـ قلَّبت صفحات سيرة المصطفى - ^ - وتأملت هذا الجانب؟
إن هذا التصرف من القائد له نتائج جميلة في نفوس النخبة الخُلَّص من الأتباع: فهو يبني بنيان الثقة في نفوسهم، ويكبر هو في عيونهم، ويرون أن كل ما قدموه لم يذهب هباءً منثوراً؛ فهو محفوظ في قلب قائدهم، ومرفوع ـ إن شاء الله ـ عند خالقهم وبارئهم. فلا يضرهم إن لم يحصّلوا ذهباً ولا فضة أو ديناراً أو درهماً؛ فكلمات القائد يخطّها الأتباع بماء الذهب؛ فتصبح أوسمة ونياشين تعلق في صدورهم، يتذكرونها في ذهابهم وإيابهم، وقبل منامهم، تشحذ فيهم همة الاستمرار على العمل، وتشعل في نفوسهم حماساً بالغاً لتحقيق الأمل.
فالإنسان مجبول على حب الثناء من الآخرين؛ وذلك لضعفه الفطري، حتى إذا تدرج في سلم الكمال، وارتقى في درجات القرب من الله الكبير المتعال، استوى عنده مدح الصديق المنوال، وذم العدو الحقود الغالِّ.
46- لا لإشاعة أخبار المشاكل:
جاء في رواية أبي سعيد الخدري - - : «فخرج سعد، فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار؛ حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم...
هذا المقطع من الرواية يبين لنا دلالات مهمة، ينبغي التفطن والاهتمام بها:
منها: أنه إذا حدث إشكال معين في صفوف الأتباع؛ فمن الحكمة ضرورة محاصرة خبره؛ لكيلا يصل خبره بين الأتباع الآخرين الذين ليس لهم علاقة به، ولم يشاركوا فيه؛ إذ إن وصول الخبر إليهم مدعاة لتضييع الأوقات وهدر الأوقات؛ فيتفشى فيهم ما نهى عنه رسول الله - ^ - من القيل والقال، وكثرة السؤال، وربما يعد عاملاً مساعداً في تفريق الجماعة، وبعث النعرات الخامدة في النفوس. ولقائل أن يسأل: ألم يدخل أحد من المهاجرين حظيرة الاجتماع؟ الجواب: نعم! ولكن قد بينت الرواية الأخرى عند الإمام أحمد من حديث أنس قال: «فجمعهم في قبة له، حتى فاضت فقال: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا. قال: «ابن أخت القوم منهم» .
ومنها: على القائد أن لا يحمّل بقية الأتباع تبعة أخطاء مجموعة معينة من الأفراد؛ ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ، فما ذنب من لم يعلم، ولم يكن مشاركاً، أو مؤيداً أن يتحمل تبعات ونتائج أخطاء الآخرين؟ أليس الجهـل بالأمر عذراً كافياً لاستثنائهم؟ بلى! ولذا فقد دلت الروايات أن النبي - ^ - قد جمع حياً واحداً من الأنصار، ولم يجمع الأنصار كلهم.
ومنها: أن مشاركة الآخرين مدعاة أيضاً إلى أن تأخذ نفوس المخطئين العزة بالإثم والإصرار على الخطأ، ومحاولة تسويغ أخطائهم؛ بذكر مثالب القائد، سواء كان في نفسه وإدارته، أو حتى في أسرته؛ فيسمع الصغير والكبير بذلك، فتحدث له فتنة جديدة ستكون عوناً على انحرافه وخروجه من دائرة الطيبين.
ومنها: أن تصرف النبي - ^ - كان غاية في الحكمـــة، وقمــة في الذكاء والحنكة، فلم يجلس مـع أبـي بكـــر وعمـر، أو المهاجرين ليحكي لهم ما بدَر من الأنصار، حتى يؤكد صحة مذهبه وطريقته؛ فيقوى بذلك جانبه، ويحقق مآربه، كلاَّ! فهو القائد والمعلم، وأولئك تلاميذ فحسب، والتلميذ مهما بلغ فهو تلميذ يجب أن يحترم قائده وموجهه، ويصبر على تعنيفه وإساءته؛ ففي معارضته حرمان نفسـه لخـيره وفضـائله وصـدق القائل:
اصبر على مر الجفا من معلم *** فإن رسوب العلم في نفراته
لقد انفرد - ^ - بهذا الحي من الأنصار لينصحهم ويربيهم على انفراد تام؛ ليؤكد لنا على أهمية النصح للمخصوص دون استماع غيره، سواء كان هذا المخصوص فرداً أو جماعة وصدق الشافعي حين قال:
تعهدْني بنصحك في انفرادٍ *** وجنبني النصيحة في الجماعهْ
فإن النصح بين الناس نـوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعهْ
فإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تغضب إذا لم تُعطَ طاعهْ
وقال مسعر بن كدام ـ - رحمه الله - ـ: «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع»
47- التعميم لا التعيين:
لقد استخدم - ^ - لفظاً عاماً في مخاطبة الحضور، ولم يعين شخصاً بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه ـ والله أعلم ـ كان يعلم بالذين تكلموا؛ فالوحي لم يكن ليترك النبي - ^- دون أن يخبره بمثل ذلك.
والمتأمل لسيرة النبي - ^ - وخطابه عند حلــول المشــكلات، أو حدوث الأخطاء من الصحابة يرى استخدامه لكلمات عامة: «ما بال أقوام، وما بال رجال»، وإليك نماذج من ذلك:
«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله! إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية»
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»
«ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت عليهم إلا خيراً. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي»
«يا معشر الأنصار! » خطاب له مدلولاته ومعانيه وقوة حضوره، وهو نداء يشعل في قلوب السامعين ذكرى اللحظات الحاسمة في بيعة العقبة الثانية، يوم بايعوه على أن يضحوا بكل شيء؛ لأجل حمايته والذود عن دعوته.
إن استخدام القائد لأسلوب التعميم عند حل المشكلات له فوائد مهمة، ونتائج طيبة:
منها: أن الخطاب سيكون عاماً وليس معيناً ومحدداً، وهذا سيؤدي إلى جعل الحضور كلهم في محل المسؤولية؛ فغير المذنب سيمقت هذا التصرف، ويعتقد أنه ربما يُقصد بذلك فيربأ بنفسه عنه، وأما المذنب فسيستهجن ما قاله وفعله، فيبدأ بإصلاح نفسه دون التعرض لأمور تجرح قائده وموجهه.
ومنها: أن أسلوب التعميم وعدم ذكر أسماء الأشخاص يحفظ للمذنب كرامته، ويصون عرضه وشخصيته، فلا تجرح، وأعظم الجرح عندما يذكر شخصه، أما إخوانه فيأتي الشيطان ليهمس في أذنه أن هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها ولا غض الطرف عنها، وقد يؤدي به آخر المطاف إلى الخروج من دائرة الطيبين ليكون مع الأعداء والمتربصين.
إن ما وقع من الأنصار بعد قسمة غنائم هوازن، وتصرف النبي - ^ - تجاه ما قالوا يعدّ ـ في نظري ـ منهجاً ينبغي أن يتخذه القادة، والمربون، والموجهون، يسيرون وفق معطياته عندما تعترضهم المشاكل والخلافات في أوساط أتباعهم، وتلامذتهم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
48- فضيلة الأنصار:
وقد ظهرت في تلك الغزوة فضيلة الأنصار، وأن الرسول - ^ - لم يمنعهم مما أعطاه غيرهم إلا لمزيد حبه لهم، ويكفيهم فخراً أنه - ^ - اعتبرهم منه بمثابة شعاره وجعل غيرهم دثاره، والشعار هو ما يلي الجلد من الثياب والدثار الذي فوقه، قال ابن حجر: "وهي استعارة لطيفة لفرط قربـهم منه، وأراد أيضاً أنـهم بطانته وخاصته، وأنـهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم" .
بل جعل ^ حبهم من الإيمان وبغضهم من علامات النفاق فقال: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار»
، وقال ^ : «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»
49- استخدامه ^ أسلوبا جديدا في القتال:
استعمل النبي ^ في حصاره للطائف أسلحة جديدة لم يسبق له أن استعملها من قبل, وهذه الأسلحة هي:
* المنجنيق: فقد ثبت أن الرسول ^ استعمل هذا السلاح عند حصاره لحصن ثقيف بالطائف، فعن مكحول أن النبي ^ نصب المنجنيق على أهل الطائف( ).
والمنجنيق من أسلحة الحصار الثقيلة ذات التأثير الفعال على من وجهت إليه, فبحجارته تهدم الحصون والأبراج, وبقنابله تحرق الدور والمعسكرات، وهذا النوع يحتاج إلى عدد من الجنود في إدارته واستخدامه عند القتال( ).
* الدبابة: ومن أسلحة الحصار الثقيلة التي استعملها الرسول ^ لأول مرة في حصار الطائف: الدبابة؛ والدبابة على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، بحيث إذا دخلها الجنود كان سقفها حرزًا لهم من الرمي( ).
* الحسك الشائك: من الأسلحة الجديدة التي استعملها الرسول ^ في حصاره لأهل الطائف: الحسك الشائك؛ وهو من وسائل الدفاع الثابتة، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منهما أربع شعب مدببة، وإذا رمى في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة، فتتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال( ).
وقد ذكر أصحاب المغازي والسير أن الرسول ^ استعمل هذا السلاح في حصاره لأهل الطائف، حيث أمر جنده بنشر الحسك الشائك حول حصن ثقيف( ), وفي هذا إشارة إلى قادة الأمة خصوصًا، والمسلمين عموما, ألا يعطلوا عقولهم وتفكيرهم من أجل الاستفادة من النافع والجديد الذي يحقق للأمة مصلحة الدارين، ويدفع عنها شرور أعدائها.
50- اختيار رسول الله ^ مكانًا مناسبًا عند القتال:
نزل الجيش في مكان مكشوف قريب من الحصن، وما كاد الجند يضعون رحالهم حتى أمطرهم الأعداء بوابل من السهام؛ فأصيب من جراء ذلك ناس كثيرون, وحينئذ عرض الحباب بن المنذر على الرسول ^ فكرة التحول من هذا الموقع إلى مكان آمن من سهام أهل الطائف، فقبل ^ هذه المشورة وكلف الحباب -لكونه من ذوي الخبرات الحربية الواسعة في هذا المجال- بالبحث عن موقع ملائم لنزول الجند، فذهب ثم حدد المكان المناسب, وعاد فأخبر النبي ^ بذلك، فأمر النبي ^ جيشه بالتحول إلى المكان الجديد، وهذا شاهد عيان يحدثنا عما رأى؛ قال عمرو بن أمية الضمري : لقد أطلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شيء الله به عليم كأنه رجل جراد, وترسنا لهم حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة, ودعا رسول الله ^ الحباب فقال: «انظر مكانًا مرتفعًا مستأخرًا عن القوم» فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف( ) خارج من القرية, فجاء إلى النبي ^ فأخبره، فأمر النبي ^ أن يتحولوا( ).
51- استخدام الحرب النفسية والدعاية:
لما اشتدت مقاومة أهل الطائف وقتلوا مجموعة من المسلمين أمر النبي ^ بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف, ثم أوقف هذا العمل بعد أثره في معنوياتهم وإضعافه روح المقاومة، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل, ووجه النبي ^ نداء لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا، فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم( ).
52- مناداة الناس بمناقبهم شرف لهم:
يقول أهل السير: إذا خطبت قوما فاذكر مناقبهم ومحامدهم، وذكرهم بأيام الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « يا بني عبد الله -قبيلة من قبائل العرب- إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا سيرتكم »
فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر العباس أن يقول: يا معشر الأنصار، ثم قال: يا أصحاب الشجرة، يناديهم بذاك اليوم المشهود، يا من أنزلت عليهم سورة البقرة, يناديهم بهذه المنقبة, فللمسلم أن يتحف إخوانه والقوم الذين يدعوهم بمناقبهم ومآثرهم ليكون أشد إقبالا لهم, وهذا من ذكر المناقب في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.
53- في أمور الحرب وسياسة القتال:
إنَّ على القائد أن لا يألو جهداً في معرفة قدرات العدو وخططه، وإمكاناته عن طريق بعث العيون ومن يستطلع له أخبار الأعداء، كما فعل رسول الله - ^ - لما بعث ابن أبي حدرد ليأتيه بخبر هوازن، قال الإمام ابن القيم عند حديث عن غزوة حنين: "وفيها من الفقه أن الإمام ينبغي عليه أن يبعث العيون، ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم".
والحق أن الرسول - ^ - كان يسعى في كل غزواته لجمع أكبر قدر من المعلومات عن العدو قبل الاشتباك معه في القتال، كما فعل في هذه الغزوة، وكما في بعثه حذيفة بن اليمان يوم الخندق ليأتيه بخبر المشركين. ، وكذلك استجوب ^ يوم بدر غلاماً لعقبة بن أبي معيط كان المسلمون قد أمسكوا به قبل غزوة بدر، وكان مما سأله عنه عدد ما ينحرون من الجزر، فلما أخبره أنـهم يذبحون في كل يوم عشراً، قال: "القوم ألف، كل جزور لمئة وتبعها."
وفي هذه الغزوة أيضاً أن الإمام كما يقول ابن القيم: "إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة، لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم، كما سار رسول الله - ^ - إلى هوازن حتى لقيهم بحنين"
وفي هذا بيان أهمية الأخذ بزمام المبادرة، وأن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم كما يقول المعاصرون، وقد رأينا في حرب عام 1967، أن من أسباب هزيمة العرب التزام قادتـهم بأن لا يكونوا البادئين بالقتال، مع علمهم بأن اليهود سيهاجمونـهم.
54- ضرب الأمثال:
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس ومثاله قوله ^: « الآن حمي الوطيس » وهو أول من تمثل به كما قال أهل السير، وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس كما ذكر سبحانه وتعالى أمثالا في القرآن يضربها في العقيدة والعبادة والسلوك.
{ جاء رجل أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فقام الصحابة عليه، فأسكتهم ^ ثم أعطاه، فلما انتهى من إعطائه، قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم أحسنت وأجملت جزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فذهب أمام الصحابة، فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، فأرادوا أن يهموا به فعاد ^ فزاده فدعا له الأعرابي، فقال: أخبر أصحابي بهذا ليزول ما في نفوسهم، فقال هذا أمامهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟
قالوا: لا، قال: مثلنا كرجل كانت عنده دابة فرت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما زادوها إلا فرارا.
فقال: « يا أيها الناس دعوني ودابتي, فأخذ شيئا من خشاش الأرض -أي: من خضرة الأرض- فلوح لها به فأقبلت إليه حتى قادها، فلو تركتكم وهذا الإعرابي لفر ثم ارتد ثم دخل النار ».
55- لله حكم:
اقتضت حكمته - سبحانه - أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته واستكانة لعزته، أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده... فلما انكسرت قلوبـهم أُرسِلت إليها خِلعُ الجبر، مع بريد النصر، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمته أن خِلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾...
56- عدم جواز قتل النساء والصبيان وغيرهم من الضعفاء:
فقد مر أن رسول الله ^ ، لما رأى امرأة مقتولة استنكر ذلك، وقال: ما كانت هذه لتقاتل ثم بعث من يطلب من خالد بن الوليد أن لا يقتل امرأة ولا عسيفاً، والعسيف: الأجير، وهذا مما يبين عظمة هذا الدين وسمو تشريعاته في أمور الحروب وغيرها، وأن مشروعية القتال في الإسلام، إنما جاءت لغايات سامية، غير ما تعارف عليه الناس في حروبـهم القديمة والحديثة، فلما كان الأصل في النساء الضعف، وأنـهن لسن من أهل القتال، فقد نـهى ^ عن قتلهن، وفي الحديث بيان أن عدم كون المرأة من أهل القتال هو علة النهي عن قتلها؛ لأنه - ^ - وصف المرأة بأنـها ليست من أهل القتال ثم رتب على ذلك النهي عن قتل النساء، "وترتيب الحكم على الوصف يدل على عِلِّيَة ذلك الوصف وعدم علية غيره"
ومعنى ذلك أنـها إذا شاركت في القتال قوتلت وقُتلت، سواء كانت مشاركتها حقيقةً بالقتال الفعلي، أو حكماً كتحريضها قومها على القتال، أو مشاركتهم الرأي، ونحو ذلك.
قال الخطابي: "فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت؛ ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنـها لا تقاتل، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها"
وفي قتل دريد بن الصمة، وعدم إنكار النبي - ^ - ذلك دليل على جواز قتل شيوخ المشركين، إذا كان فيهم منفعة للكفار كرأي أو مشورة ونحوه، فإن دريد ابن الصمة كان حين قتل ابن عشرين ومئة سنة، وقيل ابن ستين ومئة سنة.
وقد جاء في الحديث أن رسول الله - ^ - كان إذا بعث جيشاً قال«انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً. .. »
لكن جاء في حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم"
وفي كلا الحديثين كلام، غير أنـهما إن صحا فيمكن الجمع بينهما كما قال الشوكاني: "بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، ولا مضرة على المسلمين، وقد وقع التصريح بـهذا الوصف بقوله شيخاً فانياً، والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو ما بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصِّمة"
57- الإلحاح في الدعاء وقت الأزمات:
يقول جل ذكره: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ قال ابن القيم : "سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لماذا ذكر الله الدعاء والذكر وقت الأزمات ووقت التحام الصفوف؟
قال ابن تيمية : من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة، ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: « اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني ».
، «وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم؛ فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدسّ، سريع المكر؛ فلا يهملِ القادةُ استرضاءَ أنصارهم مهما وثقوا بهم».
تحدث المشاكل بين العاملين في الحقل الدعوي، وتصل قضاياهم إلى قيادة العمل، ولكن للأســف تجــد خمولاً إزاءها ولا مبالاة، وكأن هذه القيادة ليس لها إلا التصدر والترؤس، واستصدار الأحكام والفتاوى، أما حل تلك المشكلات وتقريب النفوس وتهذيبها فهذا ليس من اهتماماتها؛ لأن بعضهم يزعم أنهـا ستشغلهم عن مهمات كبيرة جداً، ولا أدري: هل هذه المهمـات أعظـم من التفكك والانشقاقات والتصدعات، وهشاشة العمل وتأخر ثمرته؟ فهل هؤلاء القادة يحملون أثقالاً أكثر وأعظم مما حمله - ^ -؟ ولكن المشكلة الحقيقية عند بعض قيادات العمل الدعوي: هي عدم تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم القدرة على استيعاب مواطن الخلاف بين العاملين أو التلامذة، ومن ثم عدم قدرة القائد تحمل أن يرى عماله أو تلامذته يختلفون أمامه، بل بعض القادة يتمنى أن لو كانت الأمور تسير دائماً على ما يرام لا يشوبها كدر ولا خلاف أو شقاق وهيهات. لقد نسي هؤلاء ـ وفقهم الله ـ أن الله تعالى قال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .
إن هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من مغذيات النمو ما هو كفيل بأن يجعلها مفاصَلات مع المربي نفسه، ودماراً وخراباً لكل ما بناه في سنيه التي خلت؛ فليس معه إلا أن يوجه أصابع الاتهام ليس إلى ذاته، وتفكيره، وعدم حنكته، وضعف بديهته، وإنما بالدرجة الأولى يوجهها إلى هذا الجيل المتأخر غير المتربي، والذي لا يحترم الكبير فضلاً عن القائد والمربي، ولعمري! إنها لمصيبة عظيمة أن نلقي التبعة على غيرنا، ونخرج نحن خارج الدائرة.
42- الحلم مع القدرة:
سعة صدر النبي - ^ - وتحمّله للنقد الموجّه له؛ «يغفر الله لرسول الله - ^ -؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ » .. فلم يرتفع صوته أو يحمرَّ وجهه ويَسوَدَّ، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين؛ فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم ويقاطع العمل معهــم؛ بحجــة أنهـم لا يحترمون القيادة، ولا يوقرون الكبار، ولا يقدرون فضائل من ضَحّى من أجلهم. كلا، لم يفعل - ^ - شيئاً من ذلك؛ بل ذهب إليهم، وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق مستوى الحدث، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء؛ فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق الدموع على خدودهم.
إن بعض القادة والمربين يستطيع أن يستميل قلوب تلامذته ورجاله لو رآهم أخطؤوا بموعظة بليغة تَوْجَل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، إلا أنه تغلبه الطبيعة التي تربى عليها منذ صغره؛ فيرى أن كبرياءه قد جرحت وخدشت، ولا يعيدها إلا اعتذار على مستوى رفيع، كأن يعتذر هؤلاء الذين تكلموا ليس في اجتماع مغلق: كالحظيرة أو القبة التي اجتمع فيها الأنصار بل اعتذار على الملأ، حتى يجرح كبرياءهم ويخدشه مثلما فعلوا.
إن الرفق بالمتلقي إذا أخطأ أمر مهم جداً؛ إذ إن القسوة عليه في غير محلها، وهو يحب مربيه ومعلمه يوغر في صدره أموراً، ويطرح أمام ناظريه عدة تساؤلات، لا يجيب عليها إلا واقع سيئ يعيشه هذا المتربي في تعامل قادته مع أتباعهم.
كما أن على القائد أن يضع في عين الاعتبار والاهتمام أن أتباعه ذوو عقول تزداد خبرةً وعلماً ومعرفةً يوماً بعد يوم، وفكراً ينضج ساعةً بعد ساعةٍ. فلو أُهملت هذه العقول وتلك الأفكار المتراكمة لكانت العاقبة وخيمة، ويسقط البنيان من القواعد.
يجب ألاّ نتعامل مع المنتقد على أنه ذلك الشاب الصغير الذي كان يوماً من الأيام لا يستطيع أن يثبّت النظر في عيني شيخه ومعلمه، أو ذلك الطالب الذي كان يتلعثم في كلامه.
فعجلة الزمن لا تتوقف؛ فهي تدور ويتطور معها الكائن البشري، ويرتقي في سلم الكمال؛ فيصبح المتربي أو الجندي قائداً بين لحظة وأخرى، وربما نِدّاً لقائده ومعلمه ومربيه.
43- الصراحة، والوضوح:
لقد كان سعد بن عبادة - -: صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي - ^ - قائده ومعلمه؛ فها هو يقول له: «يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
إن هذه الصفات والخصال الحميدة لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من القادة أو الموجهين الذين لا يضعون على أنفسهم هالة من التبجيل، ولا تصيبهم غضاضة لو لم ينادَ بلقبه أو مركزه العلمي.
الصراحة، والوضوح أسماء ومعانٍ قلّما تجد من يتمثلها فتصبح واقعاً وسلوكاً ومنهجاً في تعامله مع الآخرين صغاراً أم كباراً، ولذا فإنك ترى من يفعل ذلك قد أصبح لكلامه وقعٌ في النفوس، ولوعظه تأثيرٌ في القلوب، وأعماله منهجٌ يسير عليه ويقتدي به الآخرون، وما ذلك إلا لأن هؤلاء قد عظّموا الله ـ جل جلاله ـ تعظيماً فاق كل التصورات، واقتفوا أثر نبيهم، فكان نبراساً لهم في هذه الحياة. وما أجمل وضوح سعد بن عبادة - - وشفافية رده للنبي - ^ - عندما سأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟ » فقال - ^ -: «يا رسول الله! إنما أنا رجل من قومي»؛ أي: أن قولهم ورأيهم هو قــولي ورأيي. لم يكن ســعد - - متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، وهذه صفات تكثر في الأتباع تجاه قادتهم؛ مما يورث الجماعة انقساماً، وتحزباً، ونجوى مفسدة وموهنة لحبل الاجتماع. وقد يقول قائل: إن سعداً كان إمَّعة في قوله ذاك، أو أنه خاطب النبي - ^ - بالمنطق الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كلاَّ! إنها مسألة بدهية أن يجد الإنسان في نفسه عندما يرى العطايا تقسم ولا يصل له منها شيء، مع أنه جزء من الجماعة؛ فما بالك إذا كان هو مرتكز التغيير والتحول، وصاحب السابقة، والتأييد، والإعزاز، والنصرة؛ فكيف سيكون الحال؟
إن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفطرة الإنسان في محبته للمال والعطاء؛ فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً، والله قد أحل الغنائم لأمة محمد - ^ -؛ فأي غضاضة أن يطلب الإنسان حظه منها؟!
وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب المتربي بكل ما يحمله من قِيَم ومبادئ ومعان سامية، حتى لا يبقي في قلبه سوى حب الله وحب الرسول - ^ - وما أعده الله للصابرين الذين باعوا الدنيا وما فيها، واشتروا بها جنة عرضها السموات والأرض، وهذا الذي فعله - ^ -؛ فقد أعلنها واضحة جلية: أن قضيتهم ليست مرتبطة بلُعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه، ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله؛ فليذهب الناس بالشاة والبعير، فليس هناك مشكلة؛ بل أعظم المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا، وهو خالي الوفاض من دينه، وتمسكه بما أمر ربه، والتزام ما نهى؛ فالتخليط ديدنه، والتلوُّن طريقته، والترخُّص عادته.
44- الموعظة وليس الغلظة والفظاظة:
المتأمل لردة فعل النبي - ^ -، وبما خاطب الأنصار في الحظيرة يجد أنه استخدم بذكائه العظيم، وحسن سياسته للأمور، أسلوب الموعظة. لقد عرف - ^ - من هم الأنصار، وما هي نفسياتهم، وفيمَ يفكرون، وكيف يتعاملون؟! عرفهم في البأساء والضراء، عرف فيهم دماثة الأخلاق، والكرم الجم، والحب الكبير له - ^ -؛ فلماذا إذاً يعنِّفهم ويقسو عليهم؟ وهو القائل: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» . ، وهو الذي قال عنه المولى- تبارك وتعالى - : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ﴾
وما أحوج قادة العمل الدعوي إلى استخدام هذا الأسلوب الدعوي العظيم إذا اعوجَّ سلوك النخبة من تلامذتهم وأتباعهم! ماذا يضيرهم لو سلكوا هذا المنحى؟ قد يظن بعضهم أنه ربما ينقص من قدره ومكانته، بل العكس إنما هو رفعة له في قلوبهم، وازدياد معدل المحبة فيها.
لقد عاتب - ^ - أنصار دعوته ومحبيه ليدلل على محبته لهم، واهتمامه بحالهم وأوضاعهم، يعيش آلامهم، ويحس بجراحهم لتبقى المودة على الدوام.
أعاتب ذا المودة من صديق *** إذا ما رابني منه اجتنـابُ
إذا ذهب العتاب فليس ود *** ويبقى الود ما بقي العتابُ
«فما ثَمَّ شيء أحسن من معاتبة الأحباب، ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب»
ومن هنا كان لزاماً على من تولى قيادة النفوس أن يتقن فن الوعظ وطرقه؛ لأنه سيحتاج إليه حتماً في مسيرته التربوية والدعوية؛ فالسآمة والملل وتكرار صور الحياة أمور يجب الخوف منها، ومدافعتها عن قلوب الأتباع؛ فها هو ابن مسعود يقول: «كان النبي - ^ - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»
ويحتج بعضهم أن القيادة مشغولة بمهام عدة، وربما ليس عندها وقت لتجلس مع أتباعها، وتُصلح ما فسد بينهم بسبب الشحناء والاختلاف. وهذا غير صحيح ومجانب لواقع النبي - ^ -؛ ألم يكن بمقدور النبي أن يغض الطرف عـن مـا بــــدَر من الأنصار ويذهب لمهامه العظام؟ أليس شغل النبي - ^ - في تلك الفترة أعظم من انشغالات قيادات اليوم؟ بلى! ولكن القضية هي لا مبالاة قاتلة بواقع الأتباع، يرتكبها القادة بقصد أو بغير قصد. والنتيجة سيئة للغاية ومعالمها بادية للعيان: وهَنٌ في واقع الأتباع، ضعف للهمم، ركون لمتع الدنيا الزائلة؛ ويأس وقنوط من تغيّر وعدم تغير الأوضاع.
لقد كان - ^ - يتخذ من الوعظ بشتى صوره وأساليبه سلاحاً نافعاً لتلك المعالم آنفة الذكر، حتى استطاع أن يخرج جيلاً يقوم بواجب تبليغ الرسالة للأمم حق القيام، وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأئمة من بعده. أما اليوم فالأمر بخلاف ذلك، والله أعلم.
45- التذكير بالفضائل لأجل المتابعة:
إن من الغُرم الكبير الذي يقع على القائد، والموجه، والمربي من تلامذته، وأتباعه نسيانهم لفضائله وأعماله ومناقبه؛ فكم بذل وضحى وقاسى! وكم سهر وتعب وآسى! وربما مرض لأجل تربيتهم والحفاظ عليهم من الأعداء والمتربصين بهم؛ فكم كان يخطط وينسق وينظم جداول الأعمال والآمال لأجل صنع مستقبل مشرق، وتاريخ مجيد لهم في خدمة أمة الإسلام، ورفع راية التوحيد!
تُنسى الفضائل والأعمال والمناقب، بمجرد أن يصبح الطويلب طالب علم، أو شيخاً، أو عَلَماً دعوياً.
وتُنسى عندما يصبح طالب حلقة التحفيظ حافظاً لكتاب الله وقارئاً للقرآن يحمل الإجازات والقراءات.
وتُنسى أيضاً عندما يخطئ القائد خطأً ما، ويفحش في خطأ ما؛ بأن يصر عليه، ويتعنت فيه لرؤية رآها، واجتهاد وصل إليه والتلامذة والأتباع يرون خلاف ذلك، وأن قائدهم قد جانب الصواب.
ولوازم هذا النسيان متنوعة؛ فإما أن يوصم القائد بالتشدد أو الحزبية أو ضعف الرؤية، ثم تأتي معاول الهدم لتضرب على جدار تاريخه: ماذا فعل؟ لقد أخر العمل، وميّع القضية، وركن إلى الدنيا وشهواتها الدنية، ثم ينقَّب في أخطائه وزلاته حتى تصبح في نظرهم كالجبال، والنتيجة على أحسن الأحوال مقاطعة لمحاضراته ودروسه، ويبقى السلام والزيارة في الأعياد والمناسبات. أما على أسوئها فهو مبتدع، ضال، منحرف، أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لو استطاعوا أن يقتلوه لقتلوه ورموه في عرض الطريق.
لقد كبرت عقول الصغار حتى نسوا الماضي التليد، وانشغل الكبار حتى نسوا أنهم في عجلة الزمن التي لا تتوقف لمتباطئٍ، أو غافلٍ، أو بليد.
فمن حق القائد أن يوضح أعماله وفضائله ومناقبه، حتى يكون له الغُنْم وليس عليه الغرم، أو تعتدل كفة الميزان على الأقل.
ولعلنا نتذكر يوم دخلت الأحزاب على عثمان بن عفان - - وأرادوا قتل أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين المهديين.
قال لزعمائهم: «أنشدكم الله! أتعلمان أن رسول الله - ^ - لما قَدِم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خيرٌ منها في الجنة؟ » فاشتريتها من مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - ^ - لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة، فقال رسول الله - ^ -: «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خيرٌ منها في الجنة؟ » فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم!.
لم يكن تصرف عثمان - - يخدش مقام الإخلاص في قلبه، وإنما كان مجرد وسيلة لاستمالة قلوب أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، لكنها لم تنفع؛ ولذا فإن استمالة القلوب تكون أحياناً لا فائدة فيها عندما تقابل قلوباً أقسى من الحجارة، ناكرة للجميل، ومتناسية للأيام الخوالي، والزمن الطويل، فلم تترب التربية الإيمانية، ولم تصفُ سريرتها وأعمالها فتصبح نقية روحانية؛ ولذا فقد نفعت مع الأنصار حينما خاطبهم رسول الله - ^ - بخطاب رائع وموجز، لكنه غني: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ »
ولعلنا نتساءل: هل كان رسول الله - ^ - بحاجة إلى أن يوضح للأنصار ما عمل لهم؟ أو يخبرهم بحالهم، وكيف انتقلوا من حال الضعف إلى حال القوة بمجيئه - ^ - إليهم؟ هل كان بحاجة إلى كل هذا؛ وقد قضى معهم ثماني سنوات، كانت كفيلة بأن ترسخ تلك الحقائق في أذهان الأنصار؟
يجاب عن هذه التساؤلات بأن الإنسان ما سُمّي إنساناً إلا لنسيه، كما روي عن ابن عباس - -
وقد قال القائل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ *** وما القلبُ إلا أنه يتقلب
فالأنصار بشر يعرض لهم ما يعرض للبشر من النسيان، والسهو والغفلة، وهُمْ من المؤمنين الذين أمر الله نبيهم أن يذكرهم ﴿وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ﴾ ؛ فلما ذكَّرهم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال؛ لأنهم يحملون قلوباً أرقّ من النسيم، ما أن تسمع الحق حتى وتباشره بالخشوع والبكاء؛ فليت لنا قلوباً مثل قلوبهم أو حتى نصفها.
أما الجانب الآخر من الاعتراف بالفضل: فهو اعتراف القائد بفضل أهل السبق ومكانتهم، وهذه قضية غفل عنها كثيرٌ من قيادات العمل الدعوي اليوم، فترى أحدهم تمر عليه السنون ولم يظهر ثناؤه لرجاله الذين ساندوه، ووقفوا إلى جانبه في الملمات والمهمات، وفي المصائب والنكبات؛ ألم يكـن النبي - ^ - يقول عن أبي بكر: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر»
وعن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة»
والزبير: «إن لكل نبي حوارياً، وحواريِّي الزبير» ! وها هو يقول للأنصار: «والله! لو شئتم لقلتم ـ فصدقتم وصدقتم ـ: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّناك ومخذولاً فنصرناك»، وقال عنهم في آخر عمره: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» . ؛ فهل قيادات العمل الدعوي ـ يا ترى ـ قلَّبت صفحات سيرة المصطفى - ^ - وتأملت هذا الجانب؟
إن هذا التصرف من القائد له نتائج جميلة في نفوس النخبة الخُلَّص من الأتباع: فهو يبني بنيان الثقة في نفوسهم، ويكبر هو في عيونهم، ويرون أن كل ما قدموه لم يذهب هباءً منثوراً؛ فهو محفوظ في قلب قائدهم، ومرفوع ـ إن شاء الله ـ عند خالقهم وبارئهم. فلا يضرهم إن لم يحصّلوا ذهباً ولا فضة أو ديناراً أو درهماً؛ فكلمات القائد يخطّها الأتباع بماء الذهب؛ فتصبح أوسمة ونياشين تعلق في صدورهم، يتذكرونها في ذهابهم وإيابهم، وقبل منامهم، تشحذ فيهم همة الاستمرار على العمل، وتشعل في نفوسهم حماساً بالغاً لتحقيق الأمل.
فالإنسان مجبول على حب الثناء من الآخرين؛ وذلك لضعفه الفطري، حتى إذا تدرج في سلم الكمال، وارتقى في درجات القرب من الله الكبير المتعال، استوى عنده مدح الصديق المنوال، وذم العدو الحقود الغالِّ.
46- لا لإشاعة أخبار المشاكل:
جاء في رواية أبي سعيد الخدري - - : «فخرج سعد، فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار؛ حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم...
هذا المقطع من الرواية يبين لنا دلالات مهمة، ينبغي التفطن والاهتمام بها:
منها: أنه إذا حدث إشكال معين في صفوف الأتباع؛ فمن الحكمة ضرورة محاصرة خبره؛ لكيلا يصل خبره بين الأتباع الآخرين الذين ليس لهم علاقة به، ولم يشاركوا فيه؛ إذ إن وصول الخبر إليهم مدعاة لتضييع الأوقات وهدر الأوقات؛ فيتفشى فيهم ما نهى عنه رسول الله - ^ - من القيل والقال، وكثرة السؤال، وربما يعد عاملاً مساعداً في تفريق الجماعة، وبعث النعرات الخامدة في النفوس. ولقائل أن يسأل: ألم يدخل أحد من المهاجرين حظيرة الاجتماع؟ الجواب: نعم! ولكن قد بينت الرواية الأخرى عند الإمام أحمد من حديث أنس قال: «فجمعهم في قبة له، حتى فاضت فقال: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا. قال: «ابن أخت القوم منهم» .
ومنها: على القائد أن لا يحمّل بقية الأتباع تبعة أخطاء مجموعة معينة من الأفراد؛ ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ، فما ذنب من لم يعلم، ولم يكن مشاركاً، أو مؤيداً أن يتحمل تبعات ونتائج أخطاء الآخرين؟ أليس الجهـل بالأمر عذراً كافياً لاستثنائهم؟ بلى! ولذا فقد دلت الروايات أن النبي - ^ - قد جمع حياً واحداً من الأنصار، ولم يجمع الأنصار كلهم.
ومنها: أن مشاركة الآخرين مدعاة أيضاً إلى أن تأخذ نفوس المخطئين العزة بالإثم والإصرار على الخطأ، ومحاولة تسويغ أخطائهم؛ بذكر مثالب القائد، سواء كان في نفسه وإدارته، أو حتى في أسرته؛ فيسمع الصغير والكبير بذلك، فتحدث له فتنة جديدة ستكون عوناً على انحرافه وخروجه من دائرة الطيبين.
ومنها: أن تصرف النبي - ^ - كان غاية في الحكمـــة، وقمــة في الذكاء والحنكة، فلم يجلس مـع أبـي بكـــر وعمـر، أو المهاجرين ليحكي لهم ما بدَر من الأنصار، حتى يؤكد صحة مذهبه وطريقته؛ فيقوى بذلك جانبه، ويحقق مآربه، كلاَّ! فهو القائد والمعلم، وأولئك تلاميذ فحسب، والتلميذ مهما بلغ فهو تلميذ يجب أن يحترم قائده وموجهه، ويصبر على تعنيفه وإساءته؛ ففي معارضته حرمان نفسـه لخـيره وفضـائله وصـدق القائل:
اصبر على مر الجفا من معلم *** فإن رسوب العلم في نفراته
لقد انفرد - ^ - بهذا الحي من الأنصار لينصحهم ويربيهم على انفراد تام؛ ليؤكد لنا على أهمية النصح للمخصوص دون استماع غيره، سواء كان هذا المخصوص فرداً أو جماعة وصدق الشافعي حين قال:
تعهدْني بنصحك في انفرادٍ *** وجنبني النصيحة في الجماعهْ
فإن النصح بين الناس نـوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعهْ
فإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تغضب إذا لم تُعطَ طاعهْ
وقال مسعر بن كدام ـ - رحمه الله - ـ: «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع»
47- التعميم لا التعيين:
لقد استخدم - ^ - لفظاً عاماً في مخاطبة الحضور، ولم يعين شخصاً بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه ـ والله أعلم ـ كان يعلم بالذين تكلموا؛ فالوحي لم يكن ليترك النبي - ^- دون أن يخبره بمثل ذلك.
والمتأمل لسيرة النبي - ^ - وخطابه عند حلــول المشــكلات، أو حدوث الأخطاء من الصحابة يرى استخدامه لكلمات عامة: «ما بال أقوام، وما بال رجال»، وإليك نماذج من ذلك:
«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله! إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية»
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»
«ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت عليهم إلا خيراً. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي»
«يا معشر الأنصار! » خطاب له مدلولاته ومعانيه وقوة حضوره، وهو نداء يشعل في قلوب السامعين ذكرى اللحظات الحاسمة في بيعة العقبة الثانية، يوم بايعوه على أن يضحوا بكل شيء؛ لأجل حمايته والذود عن دعوته.
إن استخدام القائد لأسلوب التعميم عند حل المشكلات له فوائد مهمة، ونتائج طيبة:
منها: أن الخطاب سيكون عاماً وليس معيناً ومحدداً، وهذا سيؤدي إلى جعل الحضور كلهم في محل المسؤولية؛ فغير المذنب سيمقت هذا التصرف، ويعتقد أنه ربما يُقصد بذلك فيربأ بنفسه عنه، وأما المذنب فسيستهجن ما قاله وفعله، فيبدأ بإصلاح نفسه دون التعرض لأمور تجرح قائده وموجهه.
ومنها: أن أسلوب التعميم وعدم ذكر أسماء الأشخاص يحفظ للمذنب كرامته، ويصون عرضه وشخصيته، فلا تجرح، وأعظم الجرح عندما يذكر شخصه، أما إخوانه فيأتي الشيطان ليهمس في أذنه أن هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها ولا غض الطرف عنها، وقد يؤدي به آخر المطاف إلى الخروج من دائرة الطيبين ليكون مع الأعداء والمتربصين.
إن ما وقع من الأنصار بعد قسمة غنائم هوازن، وتصرف النبي - ^ - تجاه ما قالوا يعدّ ـ في نظري ـ منهجاً ينبغي أن يتخذه القادة، والمربون، والموجهون، يسيرون وفق معطياته عندما تعترضهم المشاكل والخلافات في أوساط أتباعهم، وتلامذتهم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
48- فضيلة الأنصار:
وقد ظهرت في تلك الغزوة فضيلة الأنصار، وأن الرسول - ^ - لم يمنعهم مما أعطاه غيرهم إلا لمزيد حبه لهم، ويكفيهم فخراً أنه - ^ - اعتبرهم منه بمثابة شعاره وجعل غيرهم دثاره، والشعار هو ما يلي الجلد من الثياب والدثار الذي فوقه، قال ابن حجر: "وهي استعارة لطيفة لفرط قربـهم منه، وأراد أيضاً أنـهم بطانته وخاصته، وأنـهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم" .
بل جعل ^ حبهم من الإيمان وبغضهم من علامات النفاق فقال: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار»
، وقال ^ : «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»
49- استخدامه ^ أسلوبا جديدا في القتال:
استعمل النبي ^ في حصاره للطائف أسلحة جديدة لم يسبق له أن استعملها من قبل, وهذه الأسلحة هي:
* المنجنيق: فقد ثبت أن الرسول ^ استعمل هذا السلاح عند حصاره لحصن ثقيف بالطائف، فعن مكحول أن النبي ^ نصب المنجنيق على أهل الطائف( ).
والمنجنيق من أسلحة الحصار الثقيلة ذات التأثير الفعال على من وجهت إليه, فبحجارته تهدم الحصون والأبراج, وبقنابله تحرق الدور والمعسكرات، وهذا النوع يحتاج إلى عدد من الجنود في إدارته واستخدامه عند القتال( ).
* الدبابة: ومن أسلحة الحصار الثقيلة التي استعملها الرسول ^ لأول مرة في حصار الطائف: الدبابة؛ والدبابة على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، بحيث إذا دخلها الجنود كان سقفها حرزًا لهم من الرمي( ).
* الحسك الشائك: من الأسلحة الجديدة التي استعملها الرسول ^ في حصاره لأهل الطائف: الحسك الشائك؛ وهو من وسائل الدفاع الثابتة، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منهما أربع شعب مدببة، وإذا رمى في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة، فتتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال( ).
وقد ذكر أصحاب المغازي والسير أن الرسول ^ استعمل هذا السلاح في حصاره لأهل الطائف، حيث أمر جنده بنشر الحسك الشائك حول حصن ثقيف( ), وفي هذا إشارة إلى قادة الأمة خصوصًا، والمسلمين عموما, ألا يعطلوا عقولهم وتفكيرهم من أجل الاستفادة من النافع والجديد الذي يحقق للأمة مصلحة الدارين، ويدفع عنها شرور أعدائها.
50- اختيار رسول الله ^ مكانًا مناسبًا عند القتال:
نزل الجيش في مكان مكشوف قريب من الحصن، وما كاد الجند يضعون رحالهم حتى أمطرهم الأعداء بوابل من السهام؛ فأصيب من جراء ذلك ناس كثيرون, وحينئذ عرض الحباب بن المنذر على الرسول ^ فكرة التحول من هذا الموقع إلى مكان آمن من سهام أهل الطائف، فقبل ^ هذه المشورة وكلف الحباب -لكونه من ذوي الخبرات الحربية الواسعة في هذا المجال- بالبحث عن موقع ملائم لنزول الجند، فذهب ثم حدد المكان المناسب, وعاد فأخبر النبي ^ بذلك، فأمر النبي ^ جيشه بالتحول إلى المكان الجديد، وهذا شاهد عيان يحدثنا عما رأى؛ قال عمرو بن أمية الضمري : لقد أطلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شيء الله به عليم كأنه رجل جراد, وترسنا لهم حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة, ودعا رسول الله ^ الحباب فقال: «انظر مكانًا مرتفعًا مستأخرًا عن القوم» فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف( ) خارج من القرية, فجاء إلى النبي ^ فأخبره، فأمر النبي ^ أن يتحولوا( ).
51- استخدام الحرب النفسية والدعاية:
لما اشتدت مقاومة أهل الطائف وقتلوا مجموعة من المسلمين أمر النبي ^ بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف, ثم أوقف هذا العمل بعد أثره في معنوياتهم وإضعافه روح المقاومة، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل, ووجه النبي ^ نداء لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا، فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم( ).
52- مناداة الناس بمناقبهم شرف لهم:
يقول أهل السير: إذا خطبت قوما فاذكر مناقبهم ومحامدهم، وذكرهم بأيام الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « يا بني عبد الله -قبيلة من قبائل العرب- إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا سيرتكم »
فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر العباس أن يقول: يا معشر الأنصار، ثم قال: يا أصحاب الشجرة، يناديهم بذاك اليوم المشهود، يا من أنزلت عليهم سورة البقرة, يناديهم بهذه المنقبة, فللمسلم أن يتحف إخوانه والقوم الذين يدعوهم بمناقبهم ومآثرهم ليكون أشد إقبالا لهم, وهذا من ذكر المناقب في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.
53- في أمور الحرب وسياسة القتال:
إنَّ على القائد أن لا يألو جهداً في معرفة قدرات العدو وخططه، وإمكاناته عن طريق بعث العيون ومن يستطلع له أخبار الأعداء، كما فعل رسول الله - ^ - لما بعث ابن أبي حدرد ليأتيه بخبر هوازن، قال الإمام ابن القيم عند حديث عن غزوة حنين: "وفيها من الفقه أن الإمام ينبغي عليه أن يبعث العيون، ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم".
والحق أن الرسول - ^ - كان يسعى في كل غزواته لجمع أكبر قدر من المعلومات عن العدو قبل الاشتباك معه في القتال، كما فعل في هذه الغزوة، وكما في بعثه حذيفة بن اليمان يوم الخندق ليأتيه بخبر المشركين. ، وكذلك استجوب ^ يوم بدر غلاماً لعقبة بن أبي معيط كان المسلمون قد أمسكوا به قبل غزوة بدر، وكان مما سأله عنه عدد ما ينحرون من الجزر، فلما أخبره أنـهم يذبحون في كل يوم عشراً، قال: "القوم ألف، كل جزور لمئة وتبعها."
وفي هذه الغزوة أيضاً أن الإمام كما يقول ابن القيم: "إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة، لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم، كما سار رسول الله - ^ - إلى هوازن حتى لقيهم بحنين"
وفي هذا بيان أهمية الأخذ بزمام المبادرة، وأن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم كما يقول المعاصرون، وقد رأينا في حرب عام 1967، أن من أسباب هزيمة العرب التزام قادتـهم بأن لا يكونوا البادئين بالقتال، مع علمهم بأن اليهود سيهاجمونـهم.
54- ضرب الأمثال:
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس ومثاله قوله ^: « الآن حمي الوطيس » وهو أول من تمثل به كما قال أهل السير، وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس كما ذكر سبحانه وتعالى أمثالا في القرآن يضربها في العقيدة والعبادة والسلوك.
{ جاء رجل أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فقام الصحابة عليه، فأسكتهم ^ ثم أعطاه، فلما انتهى من إعطائه، قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم أحسنت وأجملت جزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فذهب أمام الصحابة، فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، فأرادوا أن يهموا به فعاد ^ فزاده فدعا له الأعرابي، فقال: أخبر أصحابي بهذا ليزول ما في نفوسهم، فقال هذا أمامهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟
قالوا: لا، قال: مثلنا كرجل كانت عنده دابة فرت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما زادوها إلا فرارا.
فقال: « يا أيها الناس دعوني ودابتي, فأخذ شيئا من خشاش الأرض -أي: من خضرة الأرض- فلوح لها به فأقبلت إليه حتى قادها، فلو تركتكم وهذا الإعرابي لفر ثم ارتد ثم دخل النار ».
55- لله حكم:
اقتضت حكمته - سبحانه - أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته واستكانة لعزته، أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده... فلما انكسرت قلوبـهم أُرسِلت إليها خِلعُ الجبر، مع بريد النصر، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمته أن خِلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون﴾...
56- عدم جواز قتل النساء والصبيان وغيرهم من الضعفاء:
فقد مر أن رسول الله ^ ، لما رأى امرأة مقتولة استنكر ذلك، وقال: ما كانت هذه لتقاتل ثم بعث من يطلب من خالد بن الوليد أن لا يقتل امرأة ولا عسيفاً، والعسيف: الأجير، وهذا مما يبين عظمة هذا الدين وسمو تشريعاته في أمور الحروب وغيرها، وأن مشروعية القتال في الإسلام، إنما جاءت لغايات سامية، غير ما تعارف عليه الناس في حروبـهم القديمة والحديثة، فلما كان الأصل في النساء الضعف، وأنـهن لسن من أهل القتال، فقد نـهى ^ عن قتلهن، وفي الحديث بيان أن عدم كون المرأة من أهل القتال هو علة النهي عن قتلها؛ لأنه - ^ - وصف المرأة بأنـها ليست من أهل القتال ثم رتب على ذلك النهي عن قتل النساء، "وترتيب الحكم على الوصف يدل على عِلِّيَة ذلك الوصف وعدم علية غيره"
ومعنى ذلك أنـها إذا شاركت في القتال قوتلت وقُتلت، سواء كانت مشاركتها حقيقةً بالقتال الفعلي، أو حكماً كتحريضها قومها على القتال، أو مشاركتهم الرأي، ونحو ذلك.
قال الخطابي: "فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت؛ ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنـها لا تقاتل، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها"
وفي قتل دريد بن الصمة، وعدم إنكار النبي - ^ - ذلك دليل على جواز قتل شيوخ المشركين، إذا كان فيهم منفعة للكفار كرأي أو مشورة ونحوه، فإن دريد ابن الصمة كان حين قتل ابن عشرين ومئة سنة، وقيل ابن ستين ومئة سنة.
وقد جاء في الحديث أن رسول الله - ^ - كان إذا بعث جيشاً قال«انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً. .. »
لكن جاء في حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم"
وفي كلا الحديثين كلام، غير أنـهما إن صحا فيمكن الجمع بينهما كما قال الشوكاني: "بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، ولا مضرة على المسلمين، وقد وقع التصريح بـهذا الوصف بقوله شيخاً فانياً، والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو ما بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصِّمة"
57- الإلحاح في الدعاء وقت الأزمات:
يقول جل ذكره: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ قال ابن القيم : "سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لماذا ذكر الله الدعاء والذكر وقت الأزمات ووقت التحام الصفوف؟
قال ابن تيمية : من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة، ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: « اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني ».
2016-04-26, 17:16 من طرف heba1977
» موقع اخبارى مميز
2016-04-12, 14:18 من طرف الخولى
» مكتبه الفنان عبده النزاوي
2016-03-19, 17:08 من طرف حازم هارون
» مكتبه مطرب الكف ياسر رشاد
2016-03-18, 17:51 من طرف حازم هارون
» مكتبه مطرب الكف - رشاد عبد العال - اسوان
2016-03-18, 17:48 من طرف حازم هارون
» يلم دراما الزمن الجميل الرائع - أنا بنت مين, فريد شوقي, ليلى فوزي , حسين رياض
2016-03-13, 10:39 من طرف نعناعه
» فيلم الحرمان فيروز نيللي
2016-03-13, 10:35 من طرف نعناعه
» المسلسل البدوي البريئة
2016-03-13, 10:33 من طرف نعناعه
» مسلسل وضحا وابن عجلان
2016-03-13, 10:32 من طرف نعناعه